عندما فكر الإنسان القديم بستر بدنه بالمواد التي توافرت له من الطبيعة لم يكن يعرف الإبرة والخيط. فاستثمر بداية جلود الحيوانات التي يصطادها وأوراق النباتات والعظام والقواقع لستر بدنه، بعضه أو كله، والتي كان يقطعها بناء حسب حاجته، وبما يتناسب مع مناخ المنطقة التي يعيش بها. وتُجمع مصادر مختلفة على أن الإنسان قبل 30000 سنة استخدم تقنيات جديدة لصناعة ملابس تناسب جسده، وبشكل بدائي خاط المواد التي كان يلفها على جسده. في البدء صنع من الحجارة حادة الحواف أداة لقص الجلود، واستخدم العظام لثقب قِطع الجلد وإدخال أحشاء الحيوانات أو الحبال النباتية في الثقوب لجمع القطع مع بعضها البعض، ثم طورها بإيجاد ثقب في أحد طرفي الإبرة لإدخال معي الحيوان أوحبال النبات فيه.
خياط مراكشي نائم بانتظار الزبائن، تصوير روزا فري
عمر الإبرة
عُرفت الإبرة منذ ما قبل الميلاد بقرون كثيرة، واللغة وثقت ذلك قبل أن يعثر الآثاريون على أدلة مادية، فورد في إنجيل مرقس }مُرُورُ جَمَل مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ{ (مر 10: 25)، وفي القرآن جاء }إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ{ (سورة الأعراف-40). لاحقاً وثقت الاكتشافات صنع الإنسان للإبرة التي كان بحاجة إليها، والتي كانت في البداية من العظم.
إبر عظمية قديمة جداً لم يُحدد عمرها
إبر عظمية من كهف كوربيه في وادي أفيرون قرب تولوز الفرنسية. يقدر عمرها يأكثر عن 13000 سنة.
وفي كهف بسيبيريا في مدينة نوفوسيبيرسك وجد باحثون روس إبرة طولها حوالي 6 سم وعمرها حوالي 50000 عام لا تزال صالحة للاستعمال كما قيل، في حين أشارت دراسات أثرية إلى أن مصر الفرعونية عرفت الإبرة منذ القرن الخامس قبل الميلاد.
في القرن الثالث قبل الميلاد صنع الإنسان الإبرة المعدنية، وفي ولاية بافاريا عُثر على إبرة لم تكن سوى سلك معدني أحد طرفيه مثني بشكل حلقة لإدخال الخيط به.
من معادن مختلفة صُنعت الإبر، وكلما اكتشف الإنسان معدناً صنع منه الإبرة، فاستخدم البرونز والحديد والفضة، ثم الفولاذ الذي أثبت أنه الأفضل نظراً لخواصه العديدة، وفي الصين عُثر على أول إبرة فولاذية تعود إلى القرن العاشر. عن طريق القبائل المغاربية (المغرب والجزائر اليوم) وصلت صناعة الإبر الفولاذية إلى أوروبا في القرن الثامن الميلادي، وهي الفترة التي عُرفت فيها صناعة الفولاذ الدمشقي ذو الخواص الجيدة، فهو قوي ومرن ولا يصدأ.
بدأت صناعة الإبر في إسبانيا في القرن العاشر باستخدام الأفران الكتالونية، وبمعرفة الأوروبيين تقنية سحب المعادن بدأوا باستخدام الفولاذ لصناعة الإبر، فكانت مدينة نومبرغ الألمانية الأولى أوروبياً في صناعتها وتبعتها فرنسا، ولم تبدأ بريطانيا بصناعة الإبر المعدنية إلا عام 1445، وبعد خمسة أعوام أسس كريستوفر غريننغ ورشة في لونغ كريندون في باكينغهامشير. في عام 1639 وخلال عهد الملكة إليزابيث الأولى علّم الألماني إلياس جروس البريطانيين صناعة الإبر الفولاذية.
بمرور الأيام ظهرت عدة أنواع وهيئات وأحجام من الإبر، كل نوع وحجم وشكل يستخدم لقماش معين ولغرض محدد. واللافت أن صناعة الإبر بكميات تجارية خضعت لقرارات الدول كما في عهد القيصر الروسي بطرس الأول (1672 – 1725م) الذي وافق على بناء مصانع للإبر في منطقة ريازان من قِبل سيدور توميلين والأخوين ريومين، ولحماية المنتج الروسي فرض القيصر رسوماً على الإبر المستوردة. لكن الثورة الكبرى في صناعة الإبر كانت عام 1850 حيث اخُترعت آلة لصناعتها وثقبها في ذات الوقت.
ومثل كثير من الأشياء التي ارتبطت الخرافات بها، كذلك كان الأمر بالنسبة للإبرة، فبعض الشعوب تؤمن بأن الخياطة مكرومة ليلاً، وكذلك تسليم الإبرة باليد من شخص إلى آخر، ونظراً لارتباط الإبرة بالخرافات فقد استُخدمت لإبطال السحر و”ثقب عين الحسود”. في المقابل احتفلت شعوب أخرى بالإبرة، فأتباع الديانتين الشنتوية والبوذية في اليابان يقيمون طقس هاري-كويو (hari-kuyo) في 8 فبراير من كل عام، وذلك لنقل الإبر التالفة أو المكسورة إلى معبد محلي للتخلص منها.
ماكينة الخياطة
لم يكن اختراع الإبرة ذات العين حلاً مثالياً يوفر الوقت والجهد، فخياطة قطعة ملابس واحدة يدوياً بحاجة إلى عدة أيام أو أشهر حسب درجة تعقيدها. مع انطلاق الثورة الصناعة الأولى خلال القرن الثامن عشر بدأت نماذج آلات الخياطة تظهر إلى الوجود. على الورق كان المخترعون يرسمون اسكتشات الآلة الحلم، ليبدأوا بتنفيذها، وبين انهيار بعض الأحلام كلياً وتحوّل بعضها الآخر إلى حقيقة كانت سيرة ماكينة الخياطة تُكتب.
كان الألماني تشارلز فريدريك وايزينثال Charles Fredrick Wiesenthal السبّاق إلى تخطيط أول نموذج لآلة خياطة ميكانيكة، لكن ليست هناك معلومات إن بقي مخطط الألة حبيسة أوراقه، لكنه في عام 1755م حصل على براءة اختراع بريطانية لاختراعه إبرة مزدوجة الرأس وذات عين في أحد طرفيها.
آلة الألماني تشارلز فريدريك وايزينثال
بعد سنوات طويلة سجل الإنكليزي توماس سانت Thomas Saint عام 1790م براءة اختراع أول آلة خشبية لخياطة الجلد والتي لم تكن عملية.
ماكينة توماس من عام 1790
ومن رسوم سانت استفاد وليام نيوتن ويلسون William Newton Wilson، فحين وجدها في مكتب براءات الاختراع بنى نسخة ناجحة من الآلة عام 1874م مضيفاً للنموذج بعض التعديلات، وهي موجودة حالياً في متحف لندن للعلوم.
أول ماكينة خياطة وظيفية اخترعها نيوتن
في عام 1810م اخترع الألماني Balthasar Krems آلة خياطة ولم يحصل على براءة اختراع لأنها لم تعمل جيداً. بعد عدة محاولات من الخياط النمساوي جوزيف ماديرسبيرغر Josef Madersperger توصّل إلى صناعة ماكينة خياطة وحصل على براءة اختراع لكنه لم يسوّق منتجه، تبعه الفرنسي توماس ستون Thomas Stone الذي حصل على براءة اختراع عام 1804م، وكذلك جيمس هندرسون James Henderson، وفي نفس العام اخترع سكوت جون دنكان John Duncan ماكينة تطريز ذات إبر متعددة، غير أن كل ما سبق من اختراعات ثبُت فشله عملياً.
وفي الجهة الأخرى من العالم اخترع الأمريكيان جون آدم دوج John Adams Doge وجون نوليس John Knowles أول ماكينة خياطة عام 1818م، لكن نموذجهما فشل في تحقيق الغرض منه.
في عام 1830م صنع الفرنسي بارثيليمي ثيمونييه Barthélemy Thimonnier آلة معدلة أنتج منها ثمانين قطعة استُخدمت لخياطة بزات الجنود.
أول ماكينة خياطة لبارتيليمي ثيمونييه، 1830م
بحلول عام 1834 بنى النيويوركي والتر هانت Walter Hunt أول آلة خياطة ناجحة إلى حد ما لكنه لم يسجل اختراعه.
نموذج لماكينة الخياطة التي اخترعها والتر هانت
وقد سبقه إلياس هاو Elias Howe Jr في تسجيل النموذج الذي اخترعه عام 1846م والذي يشبه آلة الخياطة التي نعرفها اليوم، ورغم ذلك واجه صعوبة في تسويقها.
ماكينة خياطة إلياس هاو حاصلة على براءة اختراع عام 1846م
بعد تسع سنوات، أي في عام 1841م اخترع الأمريكي جون غرينو John Greenough آلة تمر فيها الإبرة بالكامل من سطح القماش إلى داخله. وفي أوائل عام 1844م اخترع الإنجليزي جون فيشر John Fisher آلة لإنتاج الدانتيل لكنها في الأساس ماكينة خياطة، وتُجمع المصادر على أنه ربما بسبب خطأ ما في تسجيل الاختراع في مكتب براءات الاختراع تم التغاضي عنه.
من بعده عمل الأمريكي الين بنيامين ويلسون Allen Benjamin Wilson على تطوير آلة الخياطة وصنع عدة نماذج آخرها كان عام 1850، كما حصل على عدد من براءات الاختراع لاجتهاده في تطوير تقنيات آلته.
سينغر أسطورة آلات الخياطة
Singer/سينغر.. الاسم اللامع في عالم الخياطة، والذي نعتقد أن أكثر سكان العالم يعرفونه لأنه غير الكثير في حرفة الخياطة، وانتشر اختراعه في كل القارات، وكاد أن يصل إلى كل منزل ومصنع خياطة منذ منتصف القرن التاسع عشر.
مع إسحاق سينغر Isaac Merritt Singer ظهرت عام 1851م آلة الخياطة بتقنيات أفضل من سابقاتها، فجعل لها دواسة، ونجح في تسويقها بشكل جيد خصوصاً وأنها سهلة الاستخدام في المنازل، وشراؤها كان متاحاً بالأقساط، وما تزال حتى اليوم ماكينة سينغر أو سينجر حاضرة ومنافسة.
أول ماكينة سينغر
موقع BBC Mundo باللغة الإسبانية كتب (كان ظهورها حدثاً تاريخياً، كما أنها واحدة من أفضل المنتجات مبيعاً بالتاريخ). وفي ذات الإطار كتبت الباحثة بتاريخ النسيج، لين جادنر Lynn Gardner: (كان سينغر بارعاً في العرض. لقد كان جيداً جداً في بيع ماكينة الخياطة. افتتح صالات عرض كبيرة وفخمة في الولايات المتحدة، كما أخذها إلى المعارض…. كان يعلم أنه لم يتعيّن عليه إقناع المصنّعين فحسب، بل إقناع المستهلكين أيضاً بأن الملابس المخيطة بالآلات جيدة جداً، بل أفضل من الملابس المخيطة يدوياً). وكان إمكان ماكينة سينغر خياطة 900 غرزة في الدقيقة باستمرار، أي أكثر بـ20 مرة من خيّاطة محترفة. وفي السنة الأولى ارتفعت مبيعات الماكينات من 5000 إلى 25 ألفاً، وكل عام كان العدد المباع منها يتضاعف في الولايات المتحدة. في المقابل كانت بريطانيا سوقاً جيداً لسينغر، وفي غلاسكو بأسكتلندا أسس مصنعاً لماكيناته لينتج في البداية أكثر من 1000 آلة أسبوعياً، وارتفع هذا العدد كثيراً في وقت قصير نظراً لزيادة الطلب. مع الأيام لم تعد ماكينة سينغر مخصصة لخياطة الملابس، فقط، فقد استخدمت لخياطة الأحذية والقفازات والكتب أيضاً.
في عام 1918كانت ماكينات سينغر منتشرة في العالم، فبين كل خمسة منازل يوجد منزل به ماكينة سينغر، والسبب هو الذكاء في التسويق، فاستخدمت الشركة الإعلانات المطبوعة، والبائعين الذين يصلون إلى الباب، والفتيات الجميلات اللائي يخطن بحضور الجمهور، ودورات وورش الخياطة المكثفة والتي وصلت إلى البلاد العربية بوساطة وكلاء سينغر، إلى جانب فتح عدة مصانع في نتطلق مختلفة من العالم.
لوحة إعلانية لماكينات سينغر من عام 1892
بقيت سينغر في الصدارة بالرغم من مواصلة المخترعين عملهم لإبداع ماكينة خياطة خارقة، كما فعل حصل البريطاني جيمس جيبسJames Edward Allen Gibbs الذي حصل عام 1857م على براءة اختراع أول ماكينة خياطة ذات سلسلة واحدة باستخدام خطاف دوار، وبالشراكة مع جيمس ويلكوكس James Willcox أنشأ شركة لإنتاج آلة الخياطة باسم Willcox & Gibbs، والتي لا تزال إلى اليوم تنتج أحدث الآلات.
ماكينة Willcox & Gibbs
بلانشارد المرأة المخترعة
لم تدخل المرأة حيز اختراع ماكينات الخياطة إلا عام 1872م، حيث ابتكرت الأمريكية هيلين أوغسطت بلانشارد Helen Augusta Blanchard أول آلة تعمل غرزة متعرجة، وعام 1875 اخترعت آلة حبكة، وأتبعتها ب28 براءة اختراع لـ 28 منتج آخر، بما في ذلك آلة خياطة القبعات، وافتتحت شركتين أيضاً، الأولى Blanchard Overseaming Company لتسويق اختراعاتها، والثانية لصناعة الجوارب Blanchard Hosiery Machine Company.
اختراع هيلين أوغسطت بلانشارد آلة حبكة زيكزاك Zig-zag
كل المراحل التي مر بها اختراع ماكينة الخياطة أسست لصناعة آلة متميزة عام 1889م، ومثلما أصبحت محط اهتمام الخياطات والخياطين، كذلك حازت على اهتمام ربات المنازل، وسرعان ما أصبحت ماكينات الخياطة الضخمة الأساس في خطوط إنتاج صناعة الملابس. بعد سنوات قليلة وتحديداً عام 1905 اختُرعت ماكينة الخياطة الكهربائية، فغيرت هذه الآلة البسيطة حياة ملايين الأشخاص، ليس فقط على صعيد الشركات المصنعة للألبسة، إنما على صعيد الأسر الفقيرة، حيث تعلمت ربات المنازل أساسيات الخياطة ليستعضن عن شراء الملابس أو خياطتها عند خياط أو خياطة.
الباترون/البوردا
بدءاً من عام 1860م أصبحت باترونات الخياطة متاحة عندما أصدرت سيدة الأعمال إيلين كورتيس ديموريست في مجلتها “مرآة أزياء ديموريست Demorest’s Mirror of Fashion” موديلات ملابس للنساء والفتيات مطبوعة باللونين الأبيض والأسود. وفي عام 1872م نشرت بالتعاون مع زوجها الناشر ومخترع أحد آلات الخياطة ويليام جينينغز ديموريست William Jennings Demores أنماطاً ورقية متطورة من الباترون.
مرآة أزياء ديموريست
باترون من مجلة إيبينيزر باتريك
تبعها في نشر الباترونات الخياط الأمريكي إيبينيزر باتريك Ebenezer Butterick، ففي عام 1863م نشر في صحيفته Deltor الباترون الذي يتضمن تفاصيل كاملة لكل قطعة في اللباس.
قبل حلول منتصف القرن العشرين انتشرت في السوقين الأوروبية والأمريكية الأقمشة المقصوصة مسبقاً، والتي من السهل على أي امرأة خياطتها، فما عليها إلا جمع القطع مع بعضها البعض لتصنع زياً ما. وفي السبعينيات ظهرت الأنماط متعددة الأحجام على نمط نسيج واحد، ولا تزال شركات الأنماط الجاهزة تنشر الباترونات للمستهلكين اليوم، مثل باتريك Butterick، ماكولز Mccall’s، سيمبليسيتي Simplicity، وفوغ Vogue. ومجدداً بدأت شركتا Butterick وVogue بإعادة إصدار أنماط عتيقة، وهو ما يؤكد شعبية اتجاه الخياطة القديم، وخصوصاً بالنسبة للمبتدئين بالخياطة.
المصادر:
موقع www.muegn.ru/ar/medicina
موقع www.en.wikipedia.org
موقع www.ar.wikipedia.org
موقع www.youandinfo.com
موقع www.thoughtco.com
موقع www.thoughtco.com
موقع inventionevolution.blogspot.com
موقع arabicpost.net
موقع www.contrado.co.uk